الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الصابوني: .بين يدي السورة: ابتدأت السورة الكريمة بالأدب الرفيع الذي أدب الله به المؤمنين، تجاه شريعة الله وأمر رسوله، وهو ألا يبرموا أمرا، أو يبدوا رأيا، أو يقضوا حكما في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يستشيروه، ويستمسكوا بارشاداته الحكيمة {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم}. ثم انتقلت إلى أدب آخر وهو خفض الصوت إذا تحدثوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيما لقدره الشريف، واحتراما لمقامه السامي، فإنه ليس كعامة الناس بل هو رسول الله، ومن واجب المؤمنين أن يتأدبوا معه في الخطاب مع التوقير والتعظيم والإجلال {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآيات. ومن الأدب الخاص إلى الأدب العام، تنتقل السورة لتقرير دعائم المجتمع الفاضل، فتأمر المؤمنين بعدم السماع للإشاعات، وتأمر بالتثبت من الأنباء والأخبار، لاسيما إن كان الخبر صادرا عن شخص غير عدل أو شخص متهم، فكم من كلمة نقلها فاجر فاسق، سببت كارثة من الكوارث، وكم من خبر لم يتثبت منه سامعه، جر وبالا، وأحدث انقساما {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} الآيات. ودعت السورة إلى الإصلاح بين المتخاصمين، ودفع عدوان الباغين {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} الآيات. وحذرت السورة من السخرية والهمز واللمز، ونفرت من الغيبة والتجسس، والظن السيئ بالمؤمنين، ودعت إلى مكارم الأخلاق، والفضائل الاجتماعية، وحين حذرت من الغيبة جاء النهي في تعبير رائع عجيب، أبدعه القرآن غاية الإبداع، صورة رجل يجلس إلى جنب أخ له ميت ينهش منه ويأكل لحمه {ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} الآية ويا له من تنفير عجيب؟! وختمت السورة بالحديث عن الأعراب الذين ظنوا الايمان كلمة تقال باللسان، وجاءوا يمنون على الرسول إيمانهم، وقد وضحت حقيقة الإيمان، وحقيقة الإسلام، وشروط المؤمن الكامل، وهو الذي جمع الإيمان، والإخلاص والجهاد، والعمل الصالح {إنما المؤمنون الذي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} إلى آخر السورة الكريمة. .التسمية: .قال أبو عمرو الداني: وكلمها ثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة. وحروفها ألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا. وهي ثماني عشرة آية في جميع العدد ليس فيها اختلاف وليس فيها مما يشبه الفواصل شيء. .ورءوس الآي: 1- {لا تشعرون}. 2- {عظيم}. 3- {لا يعقلون}. 4- {رحيم}. 5- {نادمين}. 6- {الراشدون}. 7- {حكيم}. 8- {المقسطين}. 9- {ترحمون}. 10- {الظالمون}. 11- {رحيم}. 12- {خبير}. 13- {رحيم}. 14- {الصادقون}. 15- {عليم}. 16- {صادقين}. 17- {تعملون}. اهـ. .فصل في معاني السورة كاملة: .قال المراغي: {لا تقدموا}: أي لا تتقدموا، من قولهم مقدمة الجيش لمن تقدم منهم، قال أبو عبيدة: العرب تقول: لا تقدّم بين يدى الإمام وبين يدى الأب: أي لا تعجل بالأمر دونه، وقيل إن المراد لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة، ورجّح هذا، {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}: أي إذا كلمتموه ونطق ونطقتم فلا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، {يغضون أصواتهم}: أي يخفضونها ويلينونها، {امتحن اللّه قلوبهم}: أي طهّرها ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة والتنقية من كل غشّ. {من وراء الحجرات}: أي من خارجها سواء كان من خلفها أو من قدامها، إذ أنها من المواراة وهى الاستتار، فما استتر عنك فهو وراء، خلفا كان أو قداما، فإذا رأيته لا يكون وراءك. ويرى بعض أهل اللغة أن وراء من الأضداد فتطلق تارة على ما أمامك، وأخرى على ما خلفك، والحجرات (بضم الجيم وفتحها وتسكينها) واحدها حجرة: وهى القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط ونحوه، والمراد بها حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام، وكانت تسعة لكل منهن حجرة من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، وكانت غير مرتفعة يتناول سقفها باليد، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبكى الناس لذلك. وقال سعيد بن المسيّب يومئذ: لوددت أنهم تركوها على حالها لينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التفاخر والتكاثر فيها. الفاسق: هو الخارج عن حدود الدين، من قولهم: فسق الرطب إذا خرج من قشره والتبين: طلب البيان، والنبأ: الخبر، قال الراغب: ولا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة وبه يحصل علم أو غلبة ظن بجهالة: أي جاهلين حالهم، فتصبحوا: أي فتصيروا، نادمين: أي مغتمّين غما لازما متمنين أنه لم يقع فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمنى عدم وقوعه، لعنتّم: أي لوقعتم في الجهد والهلاك، والكفر: تغطية نعم اللّه تعالى بالجحود لها، الفسوق: الخروج عن الحد كما علمت، والعصيان: عدم الانقياد، من قولهم: عصت النواة: أي صلبت واشتدت، والرشاد: إصابة الحق واتباع الطريق السوىّ. الطائفة: الجماعة أقل من الفرقة بدليل قوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ} {فأصلحوا بينهما}: أي فكفوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب، {بغت}: أي تعدّت وجارت، {تفيء}: أي ترجع، و{أمر اللّه}: هو الصلح، لأنه مأمور به في قوله: {وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ} {فأصلحوا بينهما بالعدل}: أي بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات بحيث يكون الحكم عادلا حتى لا يؤدى النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى، {وأقسطوا}: أي واعدلوا في كل شأن من شئونكم وأصل الإقساط: إزالة القسط (بالفتح) وهو الجور، والقاسط: الجائز كما قال: {أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}. والإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، واحدهم أخ، وقد جعلت الأخوّة في الدين كالأخوّة في النسب وكأن الإسلام أب لهم قال قائلهم: السخرية: الاحتقار وذكر العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، يقال سخر به وسخر منه، وضحك به ومنه، وهزئ به ومنه والاسم السخرية والسخرى (بالضم والكسر) وقد تكون بالمحاكاة بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالضحك على كلام المسخور منه إذا غلظ فيه، أو على صنعته، أو على قبح صورته. والقوم: شاع إطلاقه على الرجال دون النساء كما في الآية وكما قال زهير: {ولا تلمزوا أنفسكم}: أي لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما، والمؤمنون كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه، والتنابز: التعاير والتداعي بما يكرهه الشخص من الألقاب، و{الاسم}: الذكر والصيت، من قولهم: طار اسمه بين الناس بالكرم أو اللؤم. {اجتنبوا}: أي تباعدوا، وأصل اجتنبته: كنت منه على جانب، ثم شاع استعماله في التباعد اللازم له، و{الإثم}: الذنب، والتجسس: البحث عن العورات والمعايب والكشف عما ستره الناس، والغيبة: ذكر الإنسان بما يكره في غيبته، فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت لو كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه». {من ذكر وأنثى}: أي من آدم وحواء، قال إسحاق الموصلي: والشعوب: واحدهم شعب (بفتح الشين وسكون العين) وهو الحي العظيم المنتسب إلى أصل واحد كربيعة ومضر، والقبيلة دونه كبكر من ربيعة، وتميم من مضر. وحكى أبو عبيدة أن طبقات النسل التي عليها العرب سبع: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، وكل واحد منها يدخل فيما قبله، فالقبائل تحت الشعوب، والعمائر تحت القبائل، والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل، فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة (بفتح العين وكسرها) وقصىّ بطن، وعبد مناف فخذ، وهاشم فصيلة، والعباس عشيرة، وسمى الشعب شعبا لتشعب القبائل منه كتشعب أغصان الشجرة. {الإعراب}: سكان البادية، {آمنّا}: أي صدقنا بما جئت به من الشرائع، وامتثلنا ما أمرنا به، فالإيمان هو التصديق بالقلب. {أسلمنا}: أي انقدنا لك، ودخلنا في السّلم وهو ضد الحرب: أي فلسنا حربا للمؤمنين، ولا عونا للمشركين، {لا يلتكم}: أي لا ينقصكم، يقال: لاته يليته إذا نقصه، حكى الأصمعى عن أم هشام السلولية «الحمد للّه الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمّه الأصوات» {يمنون عليك}: أي يذكرون ذلك ذكر من اصطنع لك صنيعة، وأسدى إليك نعمة. اهـ. باختصار. .قال الفراء: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قوله جل وعز: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ}. اتفق عليها القراء، ولو قرأ قارئ: (لا تَقْدَموا) لكان صوابًا؛ يقال: قَدَمت في كذا وكذا، وتقدَّمت. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}. وقوله عز وجل: {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ}. وفى قراءة عبد الله {بأصواتكم}، ومثله في الكلام: تكلم كلامًا حسنًا، وتكلم بكلام حسن. وقوله: {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ}: يقول: لا تقولوا: يا محمد، ولكن قولوا: يا نبى الله- يا رسول الله، يا أبا القاسم. وقوله: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ}. معناه: لا تحبطُ وفيه الجزم والرفع إذا وضعت (لا) مكان (أن)، وقد فُسر في غير موضع، وهى في قراءة عبد الله: {فتحبطَ أعمالكم}، وهو دليل على جواز الجزم فيه. {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}. وقوله: {أُوْلَائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى}. أخلصها للتقوى كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده، ويسقط خبثه. {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}. وقوله: {مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ}. وجه الكلام أن تضم الحاءَ والجيم، وبعض العرب يقول: الْحُجَرات والرُّكَبات وكل جمع كأن يقال في ثلاثةٍ إلى عشرةٍ: غرف، وحجر، فإذا جمعته بالتاء نصبت ثانية، فالرفع أجودُ من ذلك. وقوله: {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}. أتاه وفد بنى تميم في الظهيرة، وَهو راقد صلى الله عليه، فجعلوا ينادون: يا محمد، اخرج إلينا، فاستيقظ فخرج، فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} إلى آخر الآية، وَأذِن بعد ذلك لهم؛ فقام شاعرهم، وشاعر المسلمين، وخطيب منهم، وخطيب المسلمين، فعلت أصواتهم بالتفاخر، فأنزل الله جل وَعز فيه: {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}. {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. وقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتثَبّتُوا}.
|